نظم البنك الدولي مؤخراً منتداه السنوي للهشاشة بهدف تحقيق تقدم على مستوى أهداف التنمية المستدامة في مرحلة ما بعد العام 2015. وقد شهدت الأسابيع الماضية أيضاً وقف إطلاق نار هشاً في سوريا، وانتخابات إيرانية قد تكون محورية، بالإضافة إلى اشتباكات عنيفة بين الأمن الأردني وأعضاء مما يُسمّى بالدولة الإسلامية. لقد دفعتني هذه التطورات كلها إلى إعادة تقييم ما يجب القيام به لحل قضايا الصراع والهشاشة في الشرق الأوسط.
بالنسبة للشرق الأوسط، لا بد أن تكون نقطة الانطلاق هي الابتعاد عن أي عملية تعزز صورة الحلول المستنبطة من الغرب والتي تقترح رؤى “جديدة” للمنطقة. تذكرنا هذه المقاربات باتفاقية سايكس بيكو أو “الاستراتيجية الكبرى” للمحافظين الجدد التي ظهرت في أوائل الألفية الثانية، كما وأنها لا تأخذ في الحسبان أنّ منطقة الشرق الأوسط قد تغيرت جذرياً منذ العام 2011. أصبحت المنطقة الآن، على جميع المستويات، تتوقع أن تُعامل بكرامة وأن تكون القوة الدافعة وراء تنميتها.
لقد حان الوقت لنقوم معاً بوضع “استراتيجية إقليمية لإعادة الإعمار” من شأنها أن تعالج العنف بكافة أنواعه، وليس فقط الصراعات المتعلقة بالإسلاميين. تحتاج المنطقة إلى استراتيجية تتطوّر باستمرار، وتتميّز بنظرة شمولية لحل المشاكل وفي الوقت نفسه تستند إلى مختلف أشكال التدخل (على غرار التنمية المدفوعة باعتبارات المجتمعات المحلية، ومشاريع التنمية بين المناطق، وعمليات مكافحة التمرد الهادفة، وتحقيق الاستقرار، بناء الدولة، غيرها) من دون أن تتم فرضها بالقوة. لا بد من الإشارة إلى أنّ الحاجة إلى تطبيق المقاربات الجديدة المبنية على القيادة الإقليمية الحقيقية والمشاركة الواسعة ومشاركة الشباب والاستفادة من التكنولوجيا ستزيد. ولا بد أن تكون ركائز هذه الاستراتيجية تشمل رؤية إقليمية جماعية ومشاركة محلية فعالة وأمن ذكي، بالإضافة إلى المصالحة والعدالة والإنصاف وإعادة الإعمار والتنمية والقدرة.
الرؤية الجماعية: بما أنّ تطلعات الربيع العربي لم تتحقق وازلقت بعض الدول إلى الطائفية، فهناك الآن حاجة إلى رؤية جماعية تتجاوز الحدود الوطنية. سيكون ذلك من خلال تجميع الموارد في المنطقة، وخاصة جميع مقومات التنمية على نطاق واسع كالموارد البشرية والشعوب المتعلمة ورأس المال وقابلية التحرك والطبيعة. بعد ذلك، يمكننا أن نتطلع إلى اليوم الذي تكون فيه التنمية على مستوى المنطقة فعلاً تآزرياً وليس ضاراً أو معادلة محصلتها صفر. وقد يكون ما حققه المغرب على مستوى الطاقة الشمسية هو خير مثال على ذلك – استثمار ذو رؤية واجه التحديات التنموية والبيئية الإقليمية، وحفّز التوظيف، ورفع الثقة بأن قطاعات التكنولوجيا الفائقة والقطاعات الإبداعية يمكن أن تزدهر في الشرق الأوسط. إنّ رؤية واسعة النطاق كهذه أمرٌ غاية في الأهمية في حال كانت المنطقة تريد أن تنتقل إلى القرن الحادي والعشرين وألا تبقى في حلقة مفرغة من الصراعات والتنمية الفاشلة.
إنّ المفتاح إلى رؤية شاملة وغير معادية يكون من خلال قبول الإسلام باعتباره دين الأغلبية، وفي الوقت نفسه الاعتماد على الأمن البشري باعتباره أرضية مشتركة. ومن أجل أن يحدث ذلك، لا بد من بعض التغييرات الحقيقية في أماكن مثل إيران والمملكة العربية السعودية – التي من شأنها أن تمكّنهما من ممارسة قيادتهما الإقليمية عبر دمج رؤية جماعية بناءة بدلاً من تكريس العدائية الطائفية.
المشاركة الواسعة: من المهم أن تقر الرؤية الإقليمية بأن التنمية تتطلب مجتمعاً مدنياً نشطاً ووسائل إعلام حرة وعمل وأفكار متأصلة على المستوى المحلي وبمشاركة شعبية. إنّ الدخول في مشاورات على مستوى المنطقة حيث تأتي المساهمات من المدارس والقرى والمجالس المحلية والأحزاب السياسية والنقابات وغيرها من المحافل المدنية، من شأنه أن يساعد المنطقة على أن تحلم بما تريد أن تكون في السنوات الـ 50 القادمة.
أمن ذكي: بدلاً من الرؤية الجماعية للتنمية لدينا رؤية للدفاع، تشكلت بحجة وجود تنظيم الدولة الإسلامية. يقرّ الجميع أن الحد الأدنى من الأمن مهم لتنفيذ إعادة الإعمار، إلا أن نقص الأمن لا يمكن أن يكون حجةً للوقوف مكتوفي الأيدي. أثبتت التجربة أن تأخير جهود إعادة الإعمار يرمي بالناس في أتون الصراع والعنف ويؤدي إلى الاعتماد على المساعدات الإنسانية. تحتاج المنطقة إلى العثور على وسائل أفضل لفهم النسيج الدقيق للأمن على المستويين المحلي والإقليمي ليتمّ تطوير استراتيجيات لا يمنع فيها انعدام الأمن في مكانٍ ما تحقيق التنمية في مناطق أخرى. قد يدعم هذا الأمر جهود “إعادة الإعمار الموقعي” التي تخلق نماذج تشير إلى مستوى الاستقرار المرفق بإعادة الإعمار يمكن أن يحققه التدخل وسط حالة أوسع من عدم الاستقرار.
المصالحة والعدالة: لا يمكن حماية استثمار طويل الأمد في مجال إعادة الإعمار من دون مصالحة حقيقية في جميع أنحاء المنطقة. منذ عشرين عاماً، كان خط الصدع الرئيس إسرائيل – فلسطين. أما اليوم، فتعددت خطوط الصدع التي لا بد من معالجتها، بما في ذلك التوترات بين المسلمين والمسيحيين، التوترات بين النازحين والمجتمعات المضيفة والتوترات بين السنة والشيعة. تكمن الطريقة الأساسية لبدء المصالحة في التأكد من أن سيادة القانون تُطبق على الجميع وأن لكلّ الحق في الحصول على العدالة بغض النظر عن الآلية. من هنا، يمكن بناء الكثير على الأنظمة المحلية والتقليدية لتحقيق العدالة والمصالحة.
الإنصاف: من الأخطاء الشائعة التي تحصل عند الحديث عن إعادة الإعمار هي أن هذه الأخيرة تحصل من دون تنظيم ومراقبة كافيين لضمان توزيع المكاسب بالتساوي. لقد شهدت هذه المنطقة مراراً وتكراراً كيف يمكن لـ “أمراء” إعادة الإعمار (وأغلبهم كان في السابق أمراء حرب) أن يتضامنوا ليملؤوا جيوبهم على حساب الشعب، مما يطيل أمد الأزمة في ذاك البلد. ارتأى البنك الدولي أن يتولى القطاع الخاص زمام الأمور في ما يتعلق بإعادة الإعمار في أفغانستان، كما وأنه دعم هذا النموذج في أماكن أخرى. لقد أدت جهود الأسد لتحرير اقتصاد سوريا قبل العام 2011 إلى إغناء نخبة فاسدة، مما ساهم في وصول البلاد إلى ما آلت عليه اليوم. لاحقاً، لا بدّ أن تأخذ جهود إعادة الإعمار بعين الاعتبار الأفقر والأقل قدرة – فلا يُهمش أحد على الإطلاق.
إعادة الإعمار والتنمية: ثمة حاجة ماسة للعثور على طرق جديدة لحثّ التنمية من خلال انخراط دولي في المنطقة. بفعل انعدام الاستقرار الحالي، تحوّل الإنفاق إلى الأمن وبعيداً عن أساسيات التنمية. ونتيجة لذلك، تراجعت بعض أهم مؤشرات التنمية – حرية التعبير ومشاركة المرأة والفقر ونوعية التعليم. يحصل ذلك كلّه بينما تواجه المنطقة تحديات مالية بسبب تراجع أسعار النفط بشكلٍ كبير. قد يكون ذلك فرصةً لا سيما وأن بعض الدول كانت بحاجة إلى ما يحذّرها من الآثار المؤذية المترتبة على نموذج التنمية الذي سيتمّ ضمنه استثمار مليارات الدولارات في الغرب، مما سيؤدي إلى خلق فرص عمل وأنظمة اقتصادية مستقرة على بعد آلاف الأميار وعلى حساب المنطقة. إن كان الغرب يريد أن يساعد المنطقة، فعليه أن يسعى إلى تركيز العقول داخل العالم العربي على قيمة الاستثمار من أجل حل المشاكل الإقليمية بطريقة تفيد الطرفين معاً. ففي نهاية المطاف، عندما تنعم المنطقة باستقرار أكثر ينعكس ذلك على ازدهار الدول المجاورة في الشرق وكذلك في الغرب.
بناء القدرات: من أجل تحقيق ذلك، لا بد أن نستثمر مبالغ كبيرة في تعزيز القدرات المستدامة على المستويات الإقليمية والوطنية والمحلية. لا بد من الاستثمار في التعليم على جميع المستويات، خصوصاً ما بعد التعليم الابتدائي وذلك لتزويد الشباب والشابات الذين سيصبحون قادة بالقناعة والقدرات لإعادة بناء المنطقة. وفي سعينا لتحقيق النمو، ركّزنا على العلوم الصعبة والهندسة والدراسات التجارية وعلوم الحاسوب ولكننا أهملنا ثقافاتنا ولغاتنا وتاريخنا. لا بد أن نصحح هذا الخلل. فقد حان الوقت لكي نكتب أفكارنا في لغتنا الأم وألا نعتمد على الترجمة.
ومن أجل أن يتحقق كل ذلك، لا بد من معالجة الهشاشة ضمن رؤية إقليمية متماسكة، وليس خطة وطنية فردية. لن تكون هذه الرؤية بناء إلا إذا حاول المجتمع الدولي والجهات المانحة النظر إلى المنطقة ككل – كقطعة قماش واحدة من أجل تسهيل تنقل السكان ورأس المال والأفكار والعمال بين البلدان – وتشجيع المسؤولية الإقليمية من خلال جعل دول مختلفة تؤدي دوراً قيادياً كل دولة بحسب مجال كفاءتها. يمكن للشركاء الدوليين أن يدعموا ذلك من خلال أشكال تمويل جديدة ومبتكرة تستخدم ضمانات مضمونة من المنطقة، وليس كل بلد على حدة. لو استطعنا تبني مقاربةً إقليمية بحق، قد يأتي اليوم حين نضع كرامة الإنسان والتنمية البشرية فوق الشواغل السياسة التافهة والطائفية.
Commentary
استراتيجية إقليمية لإعادة الإعمار في منطقة الشرق الأوسط
March 4, 2016